قيس مرزوق الورياشي يكتب.. يا جبل ما يهزك ريح! ترافع من أجل مغرب الأعالي

قيس مرزوق الورياشي

لا أحد يستطيع أن ينكر أن المغرب بلد متعدد: جغرافياً، هناك مغرب الجبال ومغرب السهول ومغرب الصحراء؛ ثقافياً وإتنيا، هناك مغرب الأمازيغ ومغرب العرب؛ اجتماعياً، هناك مغرب الفقراء ومغرب الأغنياء؛ اقتصادياً، هناك مغرب السرعتين (المغرب الحديث، مغرب الأوراش الكبرى، مغرب السرعة القصوى، والمغرب التقليدي، المغرب المنسي والمهمش، مغرب "النقطة الميتة").

ضمن هذه التشكيلة من التعدد، يحتل مغرب الجبال (المغرب الآخر، المنسي والمهمش) موقع السلب تجاه مغرب الأغنياء ومغرب السرعة الكبرى. نحن كثيراً ما نسمع عبارات تشير إلى هذا الواقع: "المغرب غير النافع" أو "المغرب العميق".

مغرب الجبال ليس "مغرباً عميقاً"، بل بالعكس، إنه "مغرب الأعالي". صفة "العميق" تحيلنا إلى كل ما هو مجهول ومظلم ومخيف، وهذه صفات لا تليق بالجبل. مغرب الجبال هو مغرب الأعالي، و"الأعالي" هو رمز للحياة والنور والخير والأمل.

الجبل ليس مجرد ميتافورة يتغنى بها الشعراء. الجبل كان وما يزال رمزاً لحضارات ولتمازج الثقافات، رمزاً للعلو والشموخ والمقاومة.

في كثير من الثقافات تحول الجبل إلى فضاء مقدس، إلى مكان تستقر فيه الآلهة. ففي إفريقيا الاستوائية مثلاً، يُعتبر جبل كينيا مقدساً من قِبل شعب كيكويو حيث يلتجئ إليه لطلب الاستسقاء أثناء فترات الجفاف. وفي أمريكا الجنوبية، في جبال الأنديز بالبيرو، شيد شعب الإنكا حضارته ومعابده في جبل ماتشو بيتشو (الجبل القديم بلغة الكيتشوا)، على علو 2450 فوق سطح البحر.

وفي الشرق ظهرت كثير من المعتقدات مقرونة بالجبل، فجبل سيناء مرتبط بالتوراة وبالنبي موسى، وجبل أوليمبيا في اليونان كان بمثابة مقر لآلهة الإغريق.

وفي المغرب، ما تزال ترانيم "العيوع" في غرب الريف (جبالة) تخاطب الآلهة القديمة المستقرة في قمم الجبال. وحتى عندما تبنى الأمازيغ الإسلام، فإن الجبل بقي حاضراً في رمزية الأمازيغي، ففيه تقع كثير من أضرحة الأولياء، وبه نسجت أساطير مثل أسطورة "ثيمسيزّشت" بجبل كوروكو (قلعية، الريف)؛ وبالجبل يقارن المسلم الأمي عظمة الله: يحكى أن امرأة مسلمة في الأطلس المتوسط لا تعرف مبادئ الصلاة كانت تقف يومياً أمام الجبل المقابل لمنزلها وتررد: "أياذرار،أياذرار، إياش أتيريذ ذامقران، ربي ذامقران خاش" (أيها الجبل، مهما كنت كبيراً، فربي أكبر منك).

الجبل رمز للمقاومة: مقاومة المحتل والمقاومة الثقافية. ففي جبال نفوسة بليبيا وجبال القبائل والأوراس بالجزائر وجبال الريف والأطلس في المغرب وصخرة بنتايجا Roque Bentayga بكاناريا الكبرى قاوم الأمازيغ واحتموا من هجومات الوافدين وحافظوا على لغاتهم وثقافاتهم.

الجبل في بلاد الأمازيغ يمثل الملاذ والملجأ الآمن، كما يمثل قلعاً للمقاومة. لقد سجل التاريخ انتصارات باهرة لمقاومة أمازيغ الجبل ضد الاحتلال الأجنبي في الريف (كوروكو، أنوال، ضهار أبارّان، أكنول…) وفي الأطلس (صاغرو، لهري…).

السكان الأصليون يجدون دوماً في الجبل الملاذ الآمن بيولوجياً وثقافياً: في المغرب استقر العرب في السهول وفي الصحراء، واستقر الإسبان والبرتغال في الشواطئ، ولم يتمكنوا من ولوج الجبل الذي ظل قلعة منيعة للسكان الأصليين.

في الأندلس، أدى تناحر إمارات الطوائف إلى تمركز "الإمارات العربية" غرب الأندلس (في السهول) و"الإمارات الأمازيغية" شرق الأندلس (في الجبال). وقد تمكن الملوك الكاثوليك من طرد العرب من غرب الأندلس مع بداية القرن الثالث عشر، ولم يتمكنوا من طرد الأمازيغ من جبال الأندلس الشرقي، نظراً لمقاومتهم الشديدة، إلا بعد ثلاثة إلى أربعة قرون (من 1492 إلى غاية 1615).

الجبل في المغرب أمازيغي بامتياز ومقاوم بامتياز. الإنسان هنا مقاوم للطبيعة ومقاوم لشظف العيش، وبذلك تمكن من تطويع الظروف الطبيعية الصعبة لمتطلبات الحياة عبر إبداعه لأنظمة تدبير متكاملة:

– نظام إيكولوجي يسمح بالحفاظ على التوازن البيئي؛

– نظام تدبير الماء عبر تطوير تقنيات السواقي والخطّارات والجب والناعورة؛

– نظام سياسي واجتماعي يتمثل في ديمقراطية الجماعة التناوبية؛

– نظام اقتصادي يتمثل في الاقتصاد التضامني (في الإنتاج والاستهلاك معاً) عبر عملية "تويزة"؛

– نظام غذائي يتمثل في الاستغلال العقلاني للموارد (الشعير، الزيتون، الهندية، الخضر، الفواكه الجافة…).

والجبل مقاوم أيضاً للغزو والتسلط، ليس لتسلط المستعمر فقط، بل لتسلط السلط المركزية أيضاً. فمجتمعات الجبل، ذات النظام التعاوني والتضامني، غالباً ما كانت تدخل في صراع مباشر مع تسلط السلاطين الناهبين لثروات الجبل عبر تنظيم "حركات" دورية. مع الصراع المباشر نشأ في نفس الوقت صراع رمزي: بينما كان سكان الجبل يعتبرون بلادهم "بلاد الحرية"، كان السلاطين ينعتون بلادهم "ببلاد السيبة".

الجبل الذي كان إلى عهد قريب رمزاً للعلو والشموخ والمقاومة، يشهد الآن تحولات كبيرة. إنه يعيش أزمة مركبة ومتعدة:

أزمة ديمغرافية، إذ إن المناطق الجبلية تشهد انفجاراً ديمغرافياً لا تقابله موارد قادرة على تلبية الحاجيات المتنامية. وهكذا نجد منطقتين جبليتين تعرفان أكبر كثافة سكانية على الإطلاق، إذ يسجل الريف الشرقي والجزء الشرقي من الريف الأوسط كثافة تتجاوز 100 نسمة في الكيلومتر مربع، ولا يضاهيه في هذه الكثافة غير القسم الغربي من الأطلس الكبير (معدل الكثافة الوطني هو 37 نسمة في الكيلومتر مربع).

أزمة في الأنظمة التقليدية:

على المستوى الفلاحي، هناك تراجع مهول لقيمة العمل الفلاحي، فالأجيال الصاعدة تحتقر العمل الفلاحي ولم تعد الأرض تهمها كما كان الشأن بالنسبة للآباء والأجداد. ونتيجة لذلك تتراجع جودة الأراضي الفلاحية والأشجار التي تشيخ لا تجد من يعوضها؛

على المستوى الاجتماعي فإن هجرة الشباب للعمل الفلاحي وغزو نمط العيش "الرأسمالي" أدى إلى تراجع التضامنات التقليدية وإلى هشاشتها؛

على المستوى الاقتصادي فإن هيمنة السوق الرأسمالية ونمط العيش الجديد المتميز بمفارقة تطور الاستهلاك وتراجع الإنتاج يؤدي باستمرار إلى نزيف اقتصادي واجتماعي، حيث تساهم الهجرة (الداخلية والخارجية) في حرمان البوادي والمناطق الجبلية بالخصوص من اليد العاملة والنشيطة؛

على المستوى البيئي، فإن الطلاق الذي تشهده الأجيال الحالية بين الإنسان والطبيعة، إضافة إلى عوامل بيئية أخرى، يوجد وراء هشاشة التوازن البيئي، ناهيك عن التطور المتصاعد لحرائق الغابات (العفوية والمتعمدة)، خصوصاً في جبال الريف حيث تحترق سنوياً مئات الهكتارات وحيث تراجعت الغابات بنسبة كبيرة في الخمسين سنة الأخيرة.

أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع:

تتجلى هذه الأزمة في سوء تدبير العلاقة ذاتها من خلال تدبير موارد المناطق الجبلية الغنية والمتنوعة. فالأطلس المتوسط والكبير غني بموارده المائية والغابوية والمعدنية، والريف غني بموارده المالية (العملة الصعبة) وثروته السمكية وزراعة حشيش الكيف.

إن أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع هنا تكمن بالضبط في تدبير الموارد المحلية ومدى استفادة سكان المناطق الجبلية منها، إذ كيف يعقل أن يكون مصدر مياه الشرب والسقي والصناعة كلها هي جبال الأطلس، بينما سكان الأطلس يموتون عطشاً؛ وكيف يعقل أن يكون مصدر أخشاب المغرب هي غابات الأطلس، بينما سكان الأطلس يموتون برداً؛ وكيف يعقل أن تكون أراضي الأطلس تزخر بالمعادن والمعادن النفيسة كالذهب والفضة، بينما سكان هذه المناطق يعيشون في الفقر المدقع.

في الريف تندر الموارد الطبيعية لكن بالرغم من ذلك فإن الإنسان استطاع أن يعوض هذه الموارد بالعمل خارج الوطن (الهجرة نحو أوروبا) والعمل في البحر (صيد السمك) والاهتمام بزراعة الريف المدرة للدخل والملائمة لطبيعة غرب الريف. غير أن المفارقة هي أن المستفيد من هذه الموارد ليس هو بالضبط هو صاحب الحق فيها.

نتيجة لأزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع في تدبير الموارد والاستفادة منها، المتجلية هنا بين الفعل ورد الفعل (فعل الدولة المبني على الاستغلال والتهميش، ورد فعل المجتمع المطالب بحقه في الاستفادة من ثرواته)، فإن ما نلاحظه حالياً هو عودة صراع تقليدي بين مركز مهيمن ومستغل ومجتمع ينشد الحرية والعدالة والكرامة.

إن الحركات الاجتماعية التي نشهدها حالياً (حراك الريف وحراك الأطلس) ما هي إلا ردة فعل لسياسات إهمال الجبل وسكانه الذين لم يستفيدوا، إلى حد الآن، من الأوراش الحداثية الكبرى التي باشرتها الدولة منذ أزيد من عقدين، ولم يستفيدوا من برامج تنموية مندمجة قادرة على استيعاب الباحثين عن العمل وعلى تحقيق التوازن بين سكان الجبال وسكان السهول.

إن أزمة تدبير العلاقة بين الدولة والمجتمع مرشحة للارتفاع ما لم تسارع الدولة إلى البحث عن حلول عادلة ومستديمة لسكان الجبل المهمشين، وأولى عناصر الحل تكمن في الانتقال من علاقة خصام إلى علاقة شراكة، ومن علاقة استغلال إلى علاقة تقاسم.

إن السياسات التحديثية المعتمدة على إقصاء الجبل وسكانه تساهم بشكل كبير في بروز شروخ يصعب رأبها، وتساهم بالتالي في ظهور سكيزوفرينيا دولتية تتجلى في بروز وتطور مغرب السرعتين: السرعة القصوى بالنسبة لبعض المناطق، والسرعة الدنيا، إن لم تكن سرعة الصفر، بالنسبة لمناطق أخرى، خصوصاً الجبلية منها.

حل أزمة العلاقة بين الدولة والمجتمع يمر بالضرورة عبر تقليص الهوة بين أطراف مغرب السرعتين ومن ضمنها الهوة بين السهل والجبل، وعبر سد الفجوة الكبيرة المتصاعدة بين الأغنياء والفقراء، وهذا لن يتأتى بدون شرطين اثنين:

– شرط إعادة النظر في توزيع الثروات، عبر الاعتراف الدستوري والمؤسساتي بحق المغاربة في التقرير في ثرواتهم والاستفادة منها، وهو ما يتطلب من جهته سن عدالة مجالية مثمرة ومفيدة لجميع المواطنين والمواطنات؛

– شرط إعادة النظر في ممارسة السلطة وتقسيمها، عبر توزيعها العادل في إطار مؤسسات ديمقراطية أكثر مردودية وأكثر نجاعة.

من وجهة نظر المجتمع، لا تقتصر ردود فعل المواطنين والمواطنات على تنامي الحركات الاجتماعية ذات الصبغة المطلبية والاحتجاجية فقط، بل تسير أيضاً في اتجاه العمل على بلورة استراتيجية تشاركية بين الدولة والمجتمع للعمل على تحقيق عدالة مجالية لإنصاف الجبل وسكانه. وفي هذا الإطار يعتبر الائتلاف المدني من أجل الجبل، الذي انطلقت أولى بذوره من أمازيغ جبال بولمان جنوب فاس، أرضية مهمة للعمل في أفق الانتقال من منطق التهميش إلى منطق الاندماج، ومن منطق الخصام إلى منطق الشراكة، ومن منطق الاستغلال إلى منطق التقاسم.

– ملخص لمداخلة قدمتها في ملتقى الائتلاف المدني من أجل الجبل، المنعقد بفاس يوم 2 ديسمبر 2017.

عن هسبريس

المزيد من المواضيع