الإعلام الجديد.. وسيلة للتغيير أم لتسويق الوهم والميوعة؟

كتب: علي كراجي
ذهبت الكثير من الدراسات منذ اندلاع شرارة الحراك الاجتماعي قبل 8 سنوات، إلى القول بأن الإعلام الجديد وعلى وجه الخصوص وسائل التواصل الاجتماعي، قد أدى دورا بارزا في كسر حاجز الخوف وإتاحة إمكانية التواصل بين مختلف الشرائح المجتمعية والتداول في شؤونهم العامة لاسيما المرتبطة منها بدفع الأنظمة السياسية نحو تبني المزيد من الديمقراطيات لفسح المجال أمام الفئات الشبابية الصاعدة، وجعلها تنخرط في عملية رسم مسار ديمقراطي يقوم على أساس الإصلاحات السياسية والتكريس الحقيقي للحقوق والحريات العامة.

وفي ظل أزمة الديمقراطية التي عاشتها المجتمعات ومع انتشار الانترنت وارتفاع وتيرة استعماله المتسمة بسهولة الولوج، توقعت الدراسات الصادرة عن مختلف مراكز الأبحاث الغربية والعربية، أن تكنولوجيا المعلوميات والاتصال ستقدم في المستقبل وسيلة يمكن الوثوق بها، وباستطاعتها المساهمة في مراقبة الشعوب لفعالية المسار السياسي و الأداء الحكومي، أي بصفة عامة ستعزز الممارسة السياسية المشاركة المبنية على أعمال تهدف إلى تحقيق عناصر المشروع المجتمعي للأفراد والجماعات.

وقد ساد الاعتقاد طيلة هذه الفترة، بأن الشباب في البلدان النامية قادرون على استثمار منصة "فايسبوك، تويتر، يوتيوب.." في ممارسة الرقابة على أعمال الحكومات و التغلغل عن طريق نفس الوسائل في الأحزاب السياسية و جمعيات المجتمع المدني لتغيير طرق الممارسة التقليدية التي كانت سبباً في فشل الكثير من البرامج التنموية والثقافية والعلمية أيضا، وما جعل هذا الاعتقاد يحظى بالتأييد هو حجم التنظير في دور وسائل الإعلام الجديد، و غزارة الكتابات التي تنبأت بميلاد جيل قادر على توظيف تقنية الاتصال والمعلوميات في ارساء ثقافة سياسية مشاركة قادرة على التأثير والقطع مع أساليب الدعاية المجانية لسياسات وبرامج تفتقد للفعالية والانتاج.

وأمام كل ما قيل، ومع خفوت وميض الحراك في بلدان شمال افريقيا، و تحوله إلى نيران أحرقت الأخضر واليابس في ليبيا وسوريا..، صرنا نصطدم بسلوك جديد أكثر فظاعة من الذي ألفناه قبل الربيع، وهذه المرة و بعد ان تحول النجم المتصاعد للشباب المتأثر بوظائف وسائل الاعلام الجديد من فاعل يشتغل بمعزل عن المؤسسات التقليدية التي تطغى فيها الثقافة الرعوية والخضوع، وشريحة مجتمعية هامة تمارس الضغط لتوسيع وعاء الحريات والحقوق، إلى أداة تستعمل في جعل هذه الثقافة (الرعوية) داخل نفس المؤسسات (أحزاب، جمعيات، نقابات..) تنمو بروح جيل طالما اعتبر أنه القادر على بناء الأوطان التي نحلم بها.

إن قول الكل قد يجرنا إلى التعميم وهو أشد خطورة مما أسلفت ذكره، لكن لا بأس أن أركز على فئة الشباب التي أضحت تُستغل بآليات جديدة مختلفة عن تلك التي كانت تستعمل من قبل في الحملات الانتخابية والمؤتمرات الحزبية على سبيل المثال، وتوظف في العمل على اشاعة مفاهيم جديدة/ قديمة من قبيل الشعارات الحزبية المرتبطة بشخص الزعيم و التبجيل غير البريء لأسماء معروفة في الساحة بهدف تضخيمها وتقديمها للرأي العام على أنها المنقذة والحاملة لمفاتيح فك ألغاز المشاكل وكل الارهاصات، وذلك بحثا عن المزيد من المشروعية لمحترفي انتاج البؤس والميوعة.

فعدد اللقاءات الحزبية والجمعوية والنقابية.. و الندوات و الأيام الدراسية والملتقيات "العلمية" وحتى المنظمة منها داخل الجامعات وما يسمى في بلدان التخلف عبثا بـ "مراكز الفكر"، أصبحت تفوق وأتمنى ان لا أكون مبالغا المحافل الثقافية والسياسية في البلدان الغربية والمجتمعات التي تسود فيها الثقافة السياسية المشاركة، والمشكل لا يتوقف عند هذا الحد و بعيد عن المقارنة أو فارق العدد، بل ان طريقة التسويق والترويج لهذه الملتقيات من قبل شباب مبرمجين للقيام بهذا الدور على شبكات التواصل هي المثيرة للإشكال الأهم، حيث تقدم كل الأنشطة بشكل مبالغ فيه وأحيانا تروج على أنها أو المشاركين فيها هم القادرون على حل الإشكالات العالقة والمشاكل الكبرى التي تاه المجتمع في أنفاقها المغلقة.

وهكذا، تتحول في موقع فايسبوك على سبيل المثال، جلسة بين الأصدقاء في المقهى بقدرة قادر إلى "اجتماع عمل"، صورة في ندوة مناسباتية إلى "لقاء هام لمناقشة إشكال عميق"، و جلسة غذاء مع وزير، زعيم حزبي، أو أستاذ جامعي، إلى " نقاش مميز حول مشروع سيعرف النور قريبا لتحسين الوضع والأوضاع"… إضافة إلى سلوكيات أخرى يهدف مفتعلوها إلى خلق "البوز"، زد عليها بعض الآراء التي يتبين انها متفق عليها سلفا حيث تتجه للتهجم على جهة معينة أو مدحها أو رميها باتهامات تكون مصدر ازعاج للاخر.

إن الفضاء الإلكتروني في بلدان التخلف والمغرب طبعا لا يشكل أي استثناء، صار يفقد تأثيره بشكل ملفت متحولاً من وسيلة موثوق بها قادرة على استثمارها في التغيير إلى الية لتسويق الوهم وصناعة الميوعة الثقافية، السياسية والعلمية، وإلى منصة توزع فيها الألقاب والصفات والتسميات بتضخم مقرف وسريالية تصيب مدمن هذه البرامج بالغثيان، اذ أصبحت صفات الأستاذ والخبير و السياسي و الزعيم و المناضل والصحافي… توزع بسخاء بين مجموعات الأصدقاء والمصالح الصغيرة جداً و ذوي القربى.

ختاما، يصعب امام كل الظواهر السلبية التي أنتجها الفضاء الالكتروني القول بأن الإعلام الجديد وحده كان كافيا في تحريك الشباب و دفعهم للاحتجاج في البلدان التي عانت وتعاني أمراضا سياسية واجتماعية واقتصادية، وذلك نظراً للتحول السريع لهذه الفئة من مؤيدة لـ "الثورات" إلى متطاحنة فيما بينها على مواقع التواصل الاجتماعي، نظرا لعدة عوامل من أبرزها الافتقار للثقافة السياسية و غياب الدور التأطيري للأحزاب وجمعيات المجتمع المدني التي خلقت جيلا للدعاية و الخضوع فقط، وقول أن الإعلام الجديد ساهم في صنع التغيير السياسي، فإن هذا التغيير أجل ميلاده ما دامت تلك الثقافة المغلقة غير المنتجة و المكرسة لقبول كل ما يأتي من الفوق استفاقت من جديد لتتناسل بسرعة فائقة على الشبكة العنكبوتية.

المزيد من المواضيع