توفيق بوعيشي يكتب: بيننا وبينهم برزخ لا يبغيان.. مشاهد من رحلة الإستقرار في فرنسا

توفيق بوعيشي

ساعتان من الطيران تُحوّل الفوضى إلى نظام

أوّل ما أثار إنتباهي بعد نزولي من الطائرة بمطار “مارسيليا” قادما من مطار الناظور العروي، التنظيم المُحكم لعملية الإركاب في الطائرات، فوضى المطار التي شهدتها بالعروي ونحن نحمل أمتعتنا إستعدادا للركوب، حيث الكل يتسابق للصعود الى الطائرة رغم أن الامكنة معلومة قبلا، ساعتان من الطيران فقط كانت كفيلة بأن تتغيّر هذه الفوضى إلى نظام وإنتظام حيث بمجرد نزولي من الطائرة أدهشني مسافرون يصطفون واحداً تلو الآخر مثل عسكر في التدريب يستعدون للركوب في الطائرة التي نزلت منها للسفر الى العاصمة البريطانية لندن.

المطار كان يعج بالمسافرين والمودعين والمستقبلين، الكل يسير إلى وجهته بهودء، لا صوت يسمع إلا صوت الطائرات القادمة والمغادرة من والى المطار، إرشادات بكل اللغات، قاعات مكيفة للانتظار مع ولوج مجاني للانترنت، مكان لشحن الهاتف والكمبيوتر، مطاعم، مقاهٍ، فنادق قريبة، سيارات أجرة فاخرة ومرافق صحية نظيفة وشكل هندسي مميّز للمطار، تحفة تُبهر الزائر خاصة إذا كان قادما من مطار يشبه مطار العروي الذي أتيت منه حيث الازبال تحيط بالمحطة الجوية والمستقبلين والمودعين منشورين على جنباته عرضة للشمس والمطر وسيارات أجرة مهترئة تتربص بالمسافرين وفي الداخل صراخ وهرج ومرج يشبه صخب الأسواق الاسبوعية، لاشيء يُوحي بأن المكان الذي تتواجد فيه يسمى مطارا يُفترض أن يعطى له أولوية في الاهتمام باعتباره بوابة المدينة لإستقبال الزائرين، جماليته من جمالية المدينة ونظافته من نظافة المدينة وراحة المسافر وأمنه في المطار تعني راحته وأمنه في المدينة ككل.

من مارسيليا الى أفنيون

في الطريق الى مدينة أفنيون الواقعة على بعد 100 كيلومترا من مدينة مارسليا الشاطئية بالرغم من أن لفحات البرد في شهر فبراير كانت تلسع الأطراف كسمّ أفعى قاتل إلا أنني فتحت نافذة السيارة لكي ألقي نظرة على البنية التحتية والمناظر الخلابة التي تترأى من بعيد ، فضاءات على أعلى مستوى من النظافة وبنية طرقية جيدة ومتماسكة ومساحات خضراء تسر الناظرين، تُزيل غشاوة العيون التي أُعْدِيتُ بها بسبب السنين الطويلة من مشاهدة أكوام النفايات المتنشرة بشوارع الناظور وإشتمام روائحها الكريهة، مــئة كلم مرّت كسرعة البرق كنت أريد أن أطلب من السائق أن يُبطئ السير لأتمم النظر الى ما صنعته أيادي من إعتبرناهم كفارا في صلوات الجمعة ،لِأَعُدّ السنين التي تفصلناعنهم، لكنني لم أفعل بل غمرته بسيل من الأسئلة كأعمى رجع للتو إليه بصره، لماذا لا أرى أكوام النفايات أمام عيناي ؟، لماذا لا يوجد حفر في وسط الشوارع ؟ لماذا لم نصادف حاجز أمني يطلب منا أوراق الهوية ويدقق في وثائق السيارة ؟ لماذا لا أرى العربات المجرورة بالأحصنة تبيع الخضر في الشوارع ؟ لماذا هذه النظافة كلها أينما وليت وجهك ؟ ألسنا في بلاد الكفار ونحن الذين نسمع في الخطب الجمعة ودروس الوعظ والارشاد أننا أمة جعلت النظافة من الايمان.. من هم المؤمنون حقا نحن أم هم ؟.. أسئلة كثيرة حارقة كانت تدور في ذهني لكنني بلعت لساني كافية لكي لا أُنَكِّأ جُرحي الذي بسببه غادرت الوطن.


.

أفينيون المدينة .. رائحة الريف

كان مقامي في هذه المدينة قصيرا لأنني كنت مجبرا على السفر الى العاصمة باريس لذا أصررت على صديقي أن نقوم بجولة في المدينة التي لطالما سمعت عنها في أحاديث العائلة ، هذه المدينة التي تعد عاصمة إقليم فوكليز في الجنوب الفرنسي إحدى أهم المدن الفرنسية التي هاجر إليها الريفيين منذ بداية الستينيات من القرن الماضي نظرا لموقعها الإستراتيجي المهم ومناخها المعتدل وكذا توفر فرص الشغل في مجالات البناء، الفلاحة والتجارة التي أغرت الجيل الاول من المهاجرين الذين قدموا أول مرة الى فرنسا، أحياء بأكملها يقطنها الريفيون، لا لغة تعلو فوق الأمازيغية ، هناك حيث تصنع العائلات أجواء الريف في المأكل والملبس والمشرب والعادات والتقاليد، هناك في أفنيون فقط تشم رائحة الريف ، الجولة مع صديقي كانت صغيرة لكنني إكتشفت أهم معالم هذه المدينة التي حافظت بشدة على تاريخها من خلال ترميم وإعادة بناء العديد من المآثر التاريخية التي تعود الى قرون طويلة اهمها كدرائية نوتردام، قصر الباباوات، جسر بنزه حيث أضحت هذه المآثر الآن مزارا للسياح من كل الجنسيات، غادرت بسرعة المدينة لضيق الوقت لكن أسئلة المقارنة بيننا وبينهم كانت تنغض علي متعة الرحلة .

من أفنيون الى العاصمة باريس

تبعد العاصمة باريس عن مدينة أفنيون بأكثر من 700 كلم وكان الاختيار بين أن اسافر في الطائرة من مطار مارسيليا الى باريس أو عبر القطار السريع من محطة أفنيون بعد مشاورات مع العائلة إستقر الرأي على أن إستقل القطار السريع تي جي في، الذي يطوي الأرض بسرعة هائلة حيث يختصر مسافة 7 ساعات عبر السيارة الى ثلاث ساعات وبضع دقائق فقط ، ركبت القطار في الوقت المحدد حيث لا مكان للتأخير الكل محسوب بالثواني، قطار فخم، نظيف، يتوفر على كل سبل الراحة والامان، لا يشبه بتاتا قطارات لخليع التي كانت تمر خلف المنزل الذي أقطن به في الناظور حيث كلما مر إعتقدت أن زلزالا وقع، المسافرون داخل القطار يتحدثون بهدوء، أغلبهم يقرؤون الجرائد أو الكتب، يتحدثون بلباقة كبيرة وكلمات الاحترام تسبق كل حديث، مساء الخير، من فضلك، معذرة.. لم أشعر بالوقت لأنني كنت مشدوداً الى النظر في كل من حولي، قبل أن أسمع صوتا جميلا يشعر المسافرين بقرب الوصول الى محطة شارل دوغول، هذه المعلمة التي تضم ايضا أكبر مطارات العاصمة الفرنسية باريس ومن هناك ستبدأ رحلتي الى بلدة صغيرة استقر فيها الى الآن وأبدأ في إكتشاف قوانين وإدارات وحقوق وإمتيازات المقيمين في هذا البلد وأبدأ في في الادراك أن المقارنة بيننا وبينهم ضرب من الجنون ببساطة لأن “بيننا وبينهم برزخ لا يبغيان”.

يتبع

المزيد من المواضيع